بدأ "حزب الله" يفقد سيطرته الحديدية على ميدان الجنوب كانعكاس لحالة التردي التي أصابت أهالي هذه المنطقة بفعل الحروب المتكررة، عدا عن دخول قوى خارجية عدة إلى هذا الميدان، في استعادة لواقع ما قبل العام 1982 حين كانت أرض الجنوب سائبة، يتحكم بكل جزء منها فصيل فلسطيني، أو ميليشيا لبنانية.
وقائع عدة تثبت هذا الواقع لعل أبرزها حوادث إطلاق الصواريخ التي شكلت برأي بعض المراقبين رسائل سورية أكثر منها إيرانية، وعودة التنظيمات الفلسطينية، وبعض بقايا أحزاب "الحركة الوطنية"، إلى الظهور المسلح من حين إلى آخر في الجنوب، بالإضافة إلى تطور بارز شهدته المنطقة أخيراً تمثل بإطلاق "المقاومة الإسلامية العربية" بقيادة رجل الدين الشيعي السيد محمد علي الحسيني والتي أعلنت عن نفسها بقوة قبل أشهر شاهرة السلاح المتوسط والثقيل أمام الملأ كما قامت بمناورات ضخمة الأسبوع الماضي.
ويشير مراقبون عن كثب الى ان "حزب الله" يحتفظ بكل مواقعه القديمة، بالإضافة إلى "استحداث مراكز وتحصينات في مناطق جديدة، من خلال تقسيم الميدان إلى ثلاثة خطوط دفاعية، ويعتقد كثيرون في المنطقة أنه تزود بصواريخ دفاع جوي نصبها في الخطوط الخلفية". فيما تكشف مصادر مسؤولة أن "الجديد في موضوع انتشار قوات الحزب، وجود مناطق "ميتة"، أي خالية من عناصره وأسلحته، وتحديداً في ما بين الخطوط الثلاثة، الأمر الذي يطرح تساؤلات عن "الحكمة" من ترك طرق الإمداد بين هذه الخطوط فارغة".
وتؤكد المصادر أن "فصائل فلسطينية وأحزاب وتنظيمات لبنانية بدأت بتركيز قواعد عسكرية سرية في المناطق "الميتة" الآنفة الذكر، تفضحها من حين لآخر تحركات شاحنات تنقل أسلحة وذخائر، ويلاحظ أبناء المنطقة، وجود أشخاص غرباء".
وعند التدقيق مع المعنيين تبين أن هذه القواعد تعود لأحزاب في "الحركة الوطنية" السابقة، وشاركت في عمليات المقاومة في الثمانينات من القرن الماضي، ثم توقفت مطلع التسعينات، بقرار من اللواء السوري غازي كنعان الذي حصر المقاومة بـ"حزب الله". هذه الأحزاب موجودة في المناطق غير الصافية شيعياً، والتي تشمل قرى وبلدات مسيحية وسنية ودرزية.
وبعد أحداث أيار 2008 في بيروت والجبل ومناطق أخرى، تبدلت العلاقة العسكرية والميدانية بين حركة "أمل" و"حزب الله"، وعادت الحركة إلى التسلح الواسع، بعد انكفاء طويل عائد لسببين: القرار السوري، وعدم توفر التمويل اللازم، عدا عن مضايقات "حزب الله" لعناصر حركة "أمل" في كل مكان يتجاور فيه الطرفان.
وتمثلت عودة حركة "أمل" إلى "ساحة المقاومة" في إقامة قواعدها العسكرية الخاصة بها في خراج البلدات والقرى التي تسيطر عليها سياسياً، وتتمتع بنفوذ شعبي فيها، لكن هذه القواعد مدعومة من الحزب لوجستياً حتى الآن، ما يؤشر على وجود تفاهم ما على تقاسم المناطق.
وتكررت في الآونة الأخيرة الإعلانات عن مناورات وتدريبات تجريها "المقاومة الإسلامية العربية" بقيادة السيد الحسيني، وتبين أن هذه القوة الناشئة تمتلك عدداً من المواقع المسلحة في الجنوب، من دون أية علاقة مباشرة أو غير مباشرة بـ"حزب الله" علماً أن مقار الحسيني تقع كلها في المناطق الشيعية مثل الضاحية الجنوبية وصور وبعلبك.
وقبل حرب تموز 2006 كان يمكن الجزم أن الفصائل الفلسطينية المسلحة في الجنوب، محصورة داخل المخيمات، ولكن بعد الحرب بدأت بالتمدد إلى خارجها، وتحديداً إلى المناطق "الميتة"، وأكد مسؤول فلسطيني وجود ثلاثة مواقع عسكرية على الأقل خارج مخيمات الجنوب، تابعة لفصائل حليفة لدمشق.
سياسياً يفسر بعض المراقبين "التبدل" الحاصل على أرض الجنوب بـ"التكتيكي"، وليس بالإستراتيجي، وبرأيهم فإن "حزب الله" لا يزال يمسك بالميدان عسكرياً، من خلال ترسانته، وأمنياً من خلال شبكة مخابراته التي ترصد كل شيء، بدءاً من التحركات العسكرية في المنطقة، وصولاً إلى كل تفاصيل الحياة الاجتماعية اليومية في القرى والبلدات والمدن.
ويعتبر هؤلاء أن ما يجري هو من صنع "حزب الله" نفسه، ليوهم الجميع أنه ليس المسؤول الوحيد عن السلاح غير الشرعي الذي يتحدى سلطة الدولة.
لكن مراقبين آخرين يفسرون الأمر بشكل مختلف، يؤدي إلى النتيجة نفسها، أي استمرار إمساك الحزب بميدان الجنوب، حيث يشيرون إلى أن قيادة الحزب تعرضت لضغوط إقليمية كبيرة من أجل تسهيل انتشار القواعد العسكرية المختلفة، ورضخت جزئياً، فسمحت بإيجاد هذه المواقع، ولكن فقط في المناطق التي لا تفيدها مباشرة.
ومن جهة أخرى أخضعت كل القوى الفلسطينية واللبنانية المنتشرة لمراقبتها، لا بل جعلتها في مرمى قوتها النارية، لتصفيتها وقت اللزوم. وهكذا يحتفظ الحزب "بحق حفظ الأمن" في الجنوب إذا شاء، أو إذا طلب منه ذلك، أو على العكس، الاحتفاظ بالقدرة على إشعال حرب، من دون أن يكون مسؤولاً أمام الرأي العام، عن نشوبها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق