سمير الاسطا : يقول احد انسباء كريم بقرادوني ان استمراره على قيد الحياة سياسياً ليس بسبب من ذكائه او قدراته الفائقة على المناورة والتحايل وتناول الغداء مع الاسرائيليين والعشاء مع السوريين، بل بسبب حاجة هذه القوى الى مهرج سياسي لتمرير الرسائل والاخبار والتعليمات.
من هو كريم بقرادوني؟
ولد كريم ميناس بقرادونيان في ضاحية برج حمود الارمنية في 14 آب 1944. والدته لبنانية تدعى لور شاليطا، وانضم الى حزب "الكتائب" في العام 1959 وتابع تعليمه في جامعة القديس يوسف حيث درس الحقوق وتمكن خلال دراسته من تبوؤ مركز رئيس مصلحة الطلاب في الحزب. وبادر الى تغيير اسم عائلته من بقرادونيان الى بقرادوني مبتعداً قدر الامكان عن نسبه الارمني.
لكن عروبة بقرادوني لم تكن من اجل القضية الفلسطينية بل ان هدفه الاوحد كان خطب ود النظام السوري الذي بادر الى احتضانه وجناحه في "الكتائب" الذي ضم ميشال سماحة ايضاً وغيرهما. وعندما اندلع القتال بين المسيحيين والتنظيمات الفلسطينية بادر بقرادوني الى زيارة العاصمة السورية مرات كثيرة من اجل ابرام اتفاق بين الرئيس السوري حافظ الاسد والمسيحيين، علماً ان الاسد كان قد ارسل قوات جيش التحرير الفلسطيني الى لبنان لقتال المسيحيين وتهجيرهم من الدامور والشمال وحصار زحلة.
لم يبتعد بقرادوني عن البعثيين السوريين الا مكرهاً وذلك نتيجة صعود نجم قائد "القوات اللبنانية" بشير الجميل الذي لم يكن ليرحم اي تجاوزات سياسية، لكنه عاد واستفاد من بقرادوني وقدراته الفائقة على التلون فعينه وسيطاً غير معلن او مندوباً له لدى السوريين الذين كان يقاتلهم، في موازاة تنظيم قنوات الاتصال مع الاسرائيليين الذين كانوا يرحبون ببقرادوني ويعتبرونه عميلاً مزدوجاً يمكنهم الافادة منه الى اقصى الحدود.
انهارت احلام بقرادوني مع اغتيال بشير الجميل ووصول شقيقه امين الجميل الى سدة الرئاسة بدلاً منه، علماً ان امين كان يكره بقرادوني وبادر الى ابعاده عن كل مراكز القرار. فكان رد بقرادوني المكيافيللي سريعاً بتعزيز التفاهم مع قيادات "القوات اللبنانية" التي كانت على تنافس مع الرئيس امين الجميل وخصوصاً مع رئيس جهاز الامن ايلي حبيقة ورئيس القوات الخاصة سمير جعجع، وشكل تحالفاً أسماه "حركة القرار المسيحي". وبعد سيطرة هذه الحركة على مؤسسات "القوات اللبنانية" تولى بقرادوني مهمة صناعة اعلام "القوات" والدعاية السياسية لها، ومكنه هذا الموقع من تقديم نفسه كأحد قيادات المسيحيين الاكثر نفوذاً ومالاً وسيطرة.
وقف بقرادوني الى جانب ايلي حبيقة بداية في مسعاه الى توقيع الاتفاق الثلاثي، ولكن سرعان ما تبين له حجم المعارضة المسيحية لهذا الاتفاق فانقلب على حبيقة واصبح حليفاً لجعجع الذي شن هجوماً كبيراً بالتعاون مع ميليشيا "الكتائب" على معاقل جهاز الامن وأسقط الاتفاق بالقوة المسلحة. وتولى بقرادوني بعد هذه المرحلة الاشراف على مهمة خطيرة تتمثل بتحقيق التقارب بين "القوات" وعدوها التاريخي ياسر عرفات. وسرعان ما جاء الرد السوري على هذا التقارب بتفجير سيارة مفخخة في المنطقة الشرقية في 30 ايار 1988، وسارع بقرادوني للمرة الاولى والاخيرة في حياته السياسية الى الادلاء بتصريح اتهم فيه دمشق بضرب آخر معقل للحرية والاستقلال في لبنان. ولم يكتف بهذا التنسيق بل بادر ايضا الى اقامة اتصال بين "القوات" وعدو النظام السوري اللدود، "البعث" العراقي وقائده صدام حسين الذي لم يتردد في تقديم السلاح والمال الى اعداء منافسيه. ويمكن تصور حجم الدماء والقتلى والجرحى الذي تسبب به بقرادوني بفعلته واسلحته هذه.
لم يبد النظام السوري الكثير من الود لكريم بقرادوني بعد سيطرته على قصر بعبدا ووزارة الدفاع وامساك "البعث" السوري بمقاليد الامور في العام 1990، وكان واضحاً للجميع ان دمشق لا تحتاج الى وسطاء بعد اليوم بل تريد وضع يدها مباشرة. فما كان من بقرادوني البهلوان الا ان بادر الى تبني اطروحات راديكالية قومية عربية نشرها على التوالي في جريدة "الشرق الاوسط" السعودية، ويمكن من مراجعة هذه المقالة تفهم آلية تفكير السياسيين اللبنانيين خلال مرحلة الوصاية السورية وكيف كانوا يقدمون المبررات الفكرية لتعاملهم مع الاحتلال. وقام بقرادوني في ايار1997 بزيارة الخرطوم حيث التقى الزعيم الاسلامي الاصولي حسن الترابي واعلن انه مناضل من اجل كل العرب والمسلمين. ثم زار ليبيا في العام 2001 والتقى زعيمها معمر القذافي.
رئيساً لـ"الكتائب"
لكن بقرادوني لم يكتف بهذه الحركة الاعلامية فحسب بل كان ينشط بالتنسيق مع اصدقائه القدامى في الاستخبارات السورية للامساك بحزب "الكتائب"، وازدادت هذه العلمية الحاحاً بعد ضرب "القوات اللبنانية" والزج برئيسها في السجن بتهم ملفقة. ولتأمين وصول آمن لبقرادوني، جرى اختطاف المسؤول العسكري السابق الاكثر نفوذاً في "الكتائب" بطرس خوند وازاحته من دربه. وسنحت الفرصة الذهبية له وللنظام الامني مع موت رئيس "الكتائب" جورج سعاده فجأة في تشرين الثاني 1998، فاجتمع المكتب السياسي الكتائبي وانتخب منير الحاج رئيساً له لسنة واحدة، الا ان عودة الرئيس امين الجميل من المنفى القسري في تموز 2000 "خربطت" حسابات بقرادوني الذي وجد نفسه في موقع المنظر لأهمية تبوؤ الجميل زعامة الحزب، ولكن سرعان ما صدرت الارادة العليا من السوريين بمنع انتخاب الجميل لرئاسة "الكتائب". فما كان من بقرادوني الا ان صرح في تموز 2001 ان الحزب يحتاج الى الخروج من دائرة الزعامات التاريخية وان "الكتائب" ليس ملكاً لشخص واحد. وكان واضحاً ان بقرادوني لا يستطيع ان يخرج من تحت عباءة النظام السوري الذي هدده بفتح ملف علاقاته مع الاسرائيليين.
وللتذكير فقط، فان المحكمة العسكرية لوحت في ايار 1999 لبقرادوني بملف زياراته الى حيفا في العامين 1987 و1988 مبعوثاً من "القوات اللبنانية" للقاء القيادات الاسرائيلية، لكن نقابة المحامين في بيروت رفضت رفع الحصانة النيابية عن بقرادوني. ومرت فترة من الترقب لدى الرأي العام للخطوة المقبلة التي كان يمكن ان يقدم عليها النظام الامني السوري في هذا الشأن. وسارع بقرادوني في هذه الفترة الى عقد لقاءات واسعة مع مجموعة من حلفاء سوريا في لبنان في محاولة لمنع المحاكمة عنه، وجاء الجواب عندما اعلن الرئيس نبيه بري بعد استقباله بقرادوني ان الاتهامات ضده تمس الوحدة الوطنية وسوريا والمقاومة. وهكذا توقفت الاتهامات وجرى افهام بقرادوني ان هناك سيف مصلتاً على رقبته في حال قرر التلاعب مع السوريين. وعندما بادر النظام الامني السوري الى شن حملات الاعتقال ضد المعارضين المسيحيين للسياسة السورية في لبنان كان بقرادوني واحداً من القلة بين السياسيين المسيحيين الذين وقفوا يدافعون عن الممارسات السورية القمعية، وكتب في مقالته الاسبوعية في جريدة "الشرق الاوسط": ان معارضة الوجود السوري في لبنان هي شأن اسرائيلي واميركي.
لكن كل هذه الحسابات والتحركات لم تمكن بقرادوني من الفوز برئاسة "الكتائب"، فعمد الى التلاعب بمواعيد الانتخابات الحزبية وتغيير اوقاتها وضم عدد من مؤيديه الى الهيئات الكتائبية الناخبة من اجل اسقاط الرئيس الجميل ومنعه من الامساك بـ"الكتائب" من جديد. وفي ايلول 2002 أرسل بقرادوني، بالتنسيق مع الرئيس اميل لحود والسوريين، قوى الامن لقمع تظاهرة مؤيدة للجميل واعتقلت 40 كتائبيا. ثم بادر بقرادوني الى الاعلان ان مدعي عام التمييز عدنان عضوم سيفتح تحقيقاً في ملفات الرئيس الجميل وقد يعمد الى توقيفه.
بهذه الوسائل وصل بقرادوني الى رئاسة "الكتائب"، وفي منتصف تشرين الاول 2002 اعلن في حديث اعلامي ان المطالبة بانسحاب سوريا من لبنان هو عمل احمق. واشار الى ان سوريا دخلت لبنان لأسباب اقليمية ولن تغادره لأسباب لبنانية.
وفي السنوات التي تلت الانسحاب السوري والتي سبقته، قام بقرادوني بتسليم مفاتيح بيت "الكتائب" الى الاستخبارات السورية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق